كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأغنانا بالفروسية الإيمانية والشجاعة الإسلامية التي تأثيرها في الغضب على أعدائه ونصرة دينه، عن الفروسية الشيطانية التي يبعث عليها الهوى وحمية الجاهلية.
وأغنانا بالخلوة الشرعية حال الاعتكاف، عن الخلوة البدعية التي يترك لها الحج والجهاد والجمعة والجماعة. وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق أهل المكر والاحتيال.
فلا تشتد حاجة الأمة إلى شيء إلا وفيما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما يقتضى إباحته وتوسعته، بحيث لا يحوجهم فيه إلى مكر واحتيال، ولا يلزمهم الآصار والأغلال، فلا هذا من دينه، ولا هذا. كما أغنانا بالبراهين والآيات التي أرشد إليها القرآن عن الطرق المتكلفة المتعسفة المعقدة، التي باطلها أضعاف حقها: من الطرق الكلامية، التي الصحيح منها كلحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
ونحن نعلم علما لا نشك فيه أن الحيل التي تتضمن تحليل ما حرمه الله تعالى، وإسقاط ما أوجبه لو كانت جائزة لسنها الله سبحانه. وندب إليها، لما فيها من التوسعة، والفرج للمكروب، والإغاثة للملهوف، كما ندب إلى الإصلاح بين الخصمين. وقد قال المبعوث بالحنيفية السمحة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «مَا تَرَكْتُ مِنْ شيء يُقَرِّبُكُمْ إِلَى الْجَنّةِ إلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَلا تَرَكْتُ مِنْ شيء يُبْعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ إِلا وَقَدْ حَدَّثْتُكُمْ بِهِ، وَتَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِى إلا هَالِكٌ».
فهلا ندب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى الحيل، وحض عليها، كما حض على إصلاح ذات البين؟ بل لم يزل يحذر من الخداع، والمكر، والنفاق، ومشابهة أهل الكتاب باستحلال محارمه بأدنى الحيل.
ولو كان مقصود الشارع إباحة تلك المحرمات التي رتب عليها أنواع الذم والعقوبات وسد الذرائع الموصلة إليها لم يحرمها ابتداء، ولا رتب عليها العقوبة، ولا سد الذرائع إليها. ولكان ترك أبوابها مفتحة أسهل من المبالغة في غلقها وسدها، ثم يفتح لها أنواع الحيل، حتى ينقب المحتال عليها من كل ناحية.فهذا مما تصان عنه الشرائع، فضلا عن أكملها شريعة وأفضلها دينا.
وقد قدمنا أن الضرر والمفاسد الحاصلة من تلك المحرمات لا يزول بالاحتيال والتنقيب عليها، بل تقوى وتشتد مفاسدها.
فصل:
إذا عرف هذا. فالطرق التي تتضمن نفع المسلمين، والذب عن الدين، ونصر المظلومين، وإغاثة الملهوفين، ومعارضة المحتالين بالباطل ليدحضوا به الحق، من أنفع الطرق، وأجلها علمًا وعملًا وتعليما. فيجوز للرجل أن يظهر قولًا أو فعلًا مقصوده به مقصود صالح، وإن ظن الناس أنه قصد به غير ما قصد به، إذا كان فيه مصلحة دينية، مثل دفع ظلم عن نفسه أو عن مسلم، أو معاهد، أو نصرة حق، أو إبطال باطل، من حيلة محرمة، أو غيرها، أو دفع الكفار عن المسلمين أو التوصل إلى تنفيذ أمر الله تعالى ورسوله.
فكل هذه طرق جائزة أو مستحبة، أو واجبة.
وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعت له، فيصير مخادعًا له، فهذا مخادع لله ورسوله، وذلك مخادع للكفار والفجار، والظلمة، وأرباب المكر والاحتيال.فبين هذا الخداع وذاك الخداع من الفرق كما بين البر والإثم، والعدل والظلم، والطاعة والمعصية، فأين من قصده إظهار دين الله تعالى، ونصر المظلوم، وكسر الظالم إلى من قصده ضد ذلك؟.
إذا عرف هذا، فنقول: الحيل أقسام:
أحدها: الطرق الخفية التي يتوصل بها إلى ما هو محرم في نفسه، فمتى كان المقصود بها محرمًا في نفسه، فهى حرام باتفاق المسلمين، وصاحبها فاجر ظالم آثم. وذلك كالتحيل على هلاك النفوس. وأخذ الأموال المعصومة، وفساد ذات البين، وحيل الشياطين على إغواء بنى آدم، وحيل المخادعين بالباطل على إدحاض الحق، وإظهار الباطل في الخصومات الدينية والدنيوية. فكل ما هو محرم في نفسه، فالتوصل إليه محرم بالطرق الظاهرة والخفية، بل التوصل إليه بالطرق الخفية أعظم إثما، وأكبر عقوبة، فإن أذى المخادع وشره يصل إلى المظلوم من حيث لا يشعر، ولا يمكنه الاحتراز عنه، ولهذا قطع السارق دون المنتهب والمختلس.
ومن هذا: رأى مالك ومن وافقه: أن القاتل غيلة يقتل، وإن قتل من لا يكافئه، لمفسدة فعله، وعدم إمكان التحرز منه. ومن هذا: رأى عبد الله بن الزبير: قطع يد الزُّغلى، لعظم ضرره على الأموال، وعدم إمكان التحرز منه، فهو أولى بالقطع من السارق، وقوله قوى جدًّا. ومن هذا رأى الأمام أحمد قطع يد جاحد العارية، لأنه لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف جاحد الوديعة فإنه هو الذي ائتمنه.
والعمدة في ذلك على السنة الصحيحة التي لا معارض لها.
والقصد: أن التوصل إلى الحرام حرام، سواء توصل إليه بحيلة خفية أو بأمر ظاهر.
وهذا النوع من الحيل ينقسم قسمين:
أحدهما: ما يظهر فيه أن مقصود صاحبه الشر والظلم كحيل اللصوص، والظلمة والخونة.
والثانى: ما لا يظهر ذلك فيه، بل يظهر المحتال أن قصده الخير، ومقصوده الظلم والبغى، مثل إقرار المريض لوارث لا شيء له عنده، قصدًا لتخصيصه بالمقرَّ به، أو إقراره بوارث، وهو غير وارث، إضرارا بالورثة وهذا حرام باتفاق الأمة، وتعليمه لمن يفعله حرام، والشهادة عليه حرام، إذا علم الشاهد صورة الحال. والحكم بموجب ذلك حكم باطل حرام يأثم به الحاكم باتفاق المسلمين. إذا علم صورة الحال، فهذه الحيلة في نفسها محرمة، لأنها كذب وزور، والمقصود بها محرم، لكونه ظلما وعدوانًا.
ولكن لما أمكن أن يكون صدقا اختلف العلماء في إقرار المريض لوارث، هل هو باطل، سدا للذريعة، وردا للإقرار الذي صادف حق الورثة فيما هو متهم فيه، لأنه شهادة على نفسه فيما تعلق به حقهم، فيرد للتهمة، كالشهادة على غيره، أو هو مقبول، إحسانا للظن بالمقر، ولاسيما عند الخاتمة؟.
ومن هذا الباب: احتيال المرأة على فسخ نكاح الزوج، مع إمساكه بالمعروف، بإنكارها الإذن للولى، أو إساءة عشرة الزوج، ونحو ذلك.
واحتيال البائع على فسخ البيع، بدعواه أنه كان محجورًا عليه. واحتيال المشترى على الفسخ بأنه لم ير المبيع. واحتيال المؤجر على المستأجر في فسخ الإجارة. أو احتيال المستأجر عليه بأنه استأجر ما لم يره. واحتيال الراهن على المرتهن في فسخ الرهن، بأن يظهر أنه آجره قبل الرهن، أو كان رهنه عند زوجته، أو أمته، ونحو ذلك.
فهذا النوع لا يستريب أحد أنه من كبائر الإثم، وهو من أقبح المحرمات، وهو بمنزلة لحم خنزير ميت حرام، وأنه في نفسه معصية، لتضمنه الكذب والزور. ومن جهة تضمنه إبطال الحق، وإثبات الباطل.
القسم الثالث: ما هو مباح في نفسه، لكن بقصد المحرم صار حرامًا، كالسفر لقطع الطريق، ونحو ذلك، فهاهنا المقصود حرام، والوسيلة في نفسها غير محرمة، لكن لما توسل بها إلى الحرام صارت حراما.
القسم الرابع: أن يقصد بالحيلة أخذ حق، أو دفع باطل، لكن تكون الطريق إلى حصول ذلك محرمة. مثل أن يكون له على رجل حق فيجحده، فيقيم شاهدين لا يعرفان غريمه، ولم يرياه يشهدان له بما ادعاه. فهذا محرم أيضًا، وهو عند الله تعالى عظيم، لأن الشاهدين يشهدان بالزور، وشهادة الزور من الكبائر. وقد حملهما على ذلك.
وكذلك لو كان له عند رجل دين فيجحده إياه. وله عنده وديعة فجحد الوديعة، وحلف أنه لم يودعه، أو كان له على رجل دين لا بينة له به. ودين آخر به بينه، لكنه اقتضاه منه، فيدعى هذا الدين. ويقيم به بينة. وينكر الاستيفاء.
أو يكون قد اشترى منه شيئًا، فظهر به عيب تلف المبيع به، فادعى عليه بثمنه، فأنكر أصل العقد. وأنه لم يشتر منه شيئًا، أو تزوج امرأة فأنفق عليها مدة طويلة. فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئا، فجحد نكاحها بالكلية.
فهذا حرام أيضًا لأنه كذب. ولاسيما إن حلف عليه. ولكن لو تأول في يمينه لم يكن به بأس فإنه مظلوم.
فإن قيل: فما تقولون لو عامله معاملة ربا، فقبض رأس ماله، ثم ادعى عليه بالزيادة المحرمة، هل يسوغُ له أن ينكر المعاملة أو يحلف عليها؟.
قيل: يسوغ له الحلف على عدم استحقاقها، وأن دعواها دعوى باطلة، فلو لم يقبل منه الحاكم هذا الجواب ساغ له التأويل في اليمين، لأنه مظلوم، ولا يسوغُ له الإنكارُ والحلف من غير تأويل، لأنه كذب صريح. فليس له أن يقابل الفجور بمثله، كما أنه ليس له أن يكذب على من كذب عليه، أو يقذف من قذفه، أو يَفجُر بزوجةِ من فَجَر بزوجته، أو بابنة من فَجر بابْنته.
فإن قيل: فما تقولون في مسألة الظفر؟ هل هي من هذا الباب، أو من القصاص المباح؟.
قيل: قد اختلف الفقهاء فيها على خمسة أقوال:
أحدها: أنها من هذا الباب، وأنه ليس له أن يخون من خانه. ولا يجحد من جحده. ولا يغصب من غصبه. وهذا ظاهر مذهب أحمد ومالك.
والثانى: يجوز له أن يَسْتَوْفى قدر حقه، إذا ظفر بجنسه أو غير جنسه. وفى غير الجنس يدفعه إلى الحاكم يبيعه ويستوفى ثمنه منه. وهذا قول أصحاب الشافعى.
والثالث: يجوز له أن يستوفى قدر حقه، إذا ظفر بجنس ماله. وليس له أن يأخذ من غير الجنس. وهذا قول أصحاب أبى حنيفة.
والرابع: أنه إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ. وهذا إحدى الروايتين عن مالك.
والخامس: أنه إن كان سبب الحق ظاهرًا، كالنكاح، والقرابة، وحق الضيف، جاز للمستحق الأخذ بقدر حقه، كما أذن فيه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لهند. «أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ أَبى سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَيَكْفِى بَنِيهَا».
وكما أذن لمن نزل بقوم ولم يُضيَفِّوه أن يُعْقِبَهم في مالهم بمثل قِراه كما في الصحيحين عن عُقْبة بن عامر قال: قُلْتُ لِلنَّبَّى صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلم: «إنّكَ تَبْعَثَنُا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ لا يُقْرُونَا فمَا تَرَى؟ فَقَالَ لَنَا: إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمِرُوا لَكُمْ بَما يَنْبَغِى لِضيَّفِ فَاقْبَلْوا، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيُفِ الذي يَنْبَغِى لَهُمْ».
وفى المسند من حديث المقْدام أبى كريمة أنه سمع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول: «مَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْرُوهُ، فَإِنْ لَمْ يُقْرُوهُ فله أَنْ يُعْقِبَهُمْ بمِثْلِ قِرَاهُ».
وفى المسند لأحمد أيضًا من حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فأَصْبَحَ الضّيْفُ مَحْرُومًا، فَلهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ، وَلا حَرَجَ عَلَيْهِ».
وإن كان سبب الحق خفيا، بحيث يتهم بالأخذ وينسب إلى الخيانة ظاهرًا، لم يكن له الأخذ وتعريض نفسه للتهمة والخيانة وإن كان في الباطن آخذا حقه. كما أنه ليس له أن يتعرض للتهمة التي تُسلط الناس على عرضه، وإن ادَّعى أنه محق غير متهم.
وهذا القول أصح الأقوال وأسدُّها، وأوفقها لقواعد الشريعة وأصولها، وبه تجتمع الأحاديث.
فإنه قد روى أبو داود في سننه من حديث يوسف بن ماهك قال: كنت أكتب لفلان نفقه أيتام كان وليهم، فغالطوه بألف درهم، فأداها إليهم، فأدركت له من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك، قال: لا حَدّثَنى أَبى أَنّهُ سَمِعَ رَسُول اللهِ صلى الله تعالى عليه وآله وسلمَ يَقُولُ: «أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَنِ اُئْتَمَنَكَ، وَلا تخُنْ مَنْ خَانَكَ».